فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45-46):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}.
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَيُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ صِفَاتِ ثَوَابِهِمْ، وَرُبَّمَا بَيَّنَ بَعْضَ تَقْوَاهُمُ الَّتِي نَالُوا بِهَا هَذَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ كَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [51/ 15- 19] وَقَوْلِهِ فِي الدُّخَانِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [44/ 51- 57] وَقَوْلِهِ فِي الطُّورِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [52/ 17- 20].
وَقَوْلِهِ فِي الْقَمَرِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [54/ 54- 55] وَقَوْلِهِ فِي الْمُرْسَلَاتِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [77/ 41- 43] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَهُ أَوْصَافٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْقُرْآنِ نُبَيِّنُ أَوْصَافَهُ عِنْدَ ذِكْرِ بَعْضِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ مِرَارًا وَكَمَا هُنَا.
وَالْمُتَّقِي اسْمُ فَاعِلِ الِاتِّقَاءِ، وَأَصْلُ مَادَّةِ الِاتِّقَاءِ وق ي لَفِيفٌ مَفْرُوقٌ فَاؤُهُ وَاوٌ وَعَيْنُهُ قَافٌ وَلَامُهُ يَاءٌ، فَدَخَلَهُ تَاءُ الِافْتِعَالِ فَصَارَتْ وَقِيَ أَوْ تَقِيَ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ تَاءً لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي التَّصْرِيفِ: أَنَّ كُلَّ وَاوٍ هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَاءُ الِافْتِعَالِ يَجِبُ إِبْدَالُهَا- أَعْنِي الْوَاوَ- تَاءً وَإِدْغَامُهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ نَحْوَ اتَّصَلَ مِنَ الْوَصْلِ وَاتَّزَنَ مِنَ الْوَزْنِ وَاتَّحَدَ مِنَ الْوَحْدَةِ وَاتَّقَى مِنَ الْوِقَايَةِ وَعَقَدَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
ذُو اللِّينِ فَاتَا فِي افْتِعَالٍ أُبْدِلَا ** وَشَذَّ فِي ذِي الْهَمْزِ نَحْوَ ائْتَكَلَا

وَالِاتِّقَاءُ فِي اللُّغَةِ: اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ دُونَ الْمَكْرُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ** فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ

يَعْنِي اسْتَقْبَلَتْنَا بِيَدِهَا جَاعِلَةً إِيَّاهَا وِقَايَةً تَقِيهَا مِنْ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا لِأَنَّهَا تَسْتُرُهُ بِهَا، وَقَوْلُ الْآخَرِ: فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٍّ وَمِعْصَمٍ وَالتَّقْوَى فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: هِيَ اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ دُونَ عَذَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَمْرَيْنِ هُمَا: امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ.

.تفسير الآية رقم (47):

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ نَزَعَ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْغِلِّ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ إِخْوَانًا، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَعْرَافِ، وَزَادَ أَنَّهُمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [7/ 43].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}.
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ عَلَى سُرُرٍ، وَأَنَّهُمْ مُتَقَابِلُونَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهِ بَعْضٍ، وَوَصَفَ سُرُرَهُمْ بِصِفَاتٍ جَمِيلَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، مِنْهَا أَنَّهَا مَنْسُوجَةٌ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ وَهِيَ الْمَوْضُوعَةُ قَالَ فِي الْوَاقِعَةِ: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [56/ 13- 16] وَقِيلَ: الْمَوْضُونَةُ الْمَصْفُوفَةُ كَقَوْلِهِ: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} الْآيَةَ [52/ 20] وَمِنْهَا أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ كَقَوْلِهِ فِي الْغَاشِيَةِ: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} الْآيَةَ [88/ 13] وَقَوْلِهِ فِي الْوَاقِعَةِ: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [56/ 34]، وَقَوْلِهِ: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [55/ 76] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، وَقَوْلُهُ: {نَصَبٌ} نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ كُلَّ نَصَبٍ، فَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى سَلَامَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [35/ 35] لِأَنَّ اللُّغُوبَ هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ أَيْضًا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}:
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَأَكَّدَ نَفْيَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ بِمُخْرَجِينَ فَهُمْ دَائِمُونَ فِي نَعِيمِهَا أَبَدًا بِلَا انْقِطَاعٍ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [18/ 107- 108] وَقَوْلِهِ: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [18/ 2- 3] وَقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [11/ 108] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [38/ 54] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}.
بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ضَيْفَ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [11/ 69] كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلِهِ: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [51/ 31- 32]
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}.
لَمْ يُبَيِّنْ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هَلْ رَدَّ إِبْرَاهِيمُ السَّلَامَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا رَدَّهُ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ عَنْهُ إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، وَبَيَّنَ فِي هُودٍ وَالذَّارِيَاتِ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمُ السَّلَامَ بِقَوْلِهِ فِي هُودٍ قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [الآية 69] وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: {قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [51/ 25- 26] وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَجَلَ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ الْخَوْفُ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا فِي هُودٍ: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ} [51/ 70] وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ} [11/ 28]. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانَ اللَّفْظِ بِمُرَادِفٍ لَهُ أَشْهَرَ مِنْهُ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ الْخَوْفَ يُرَادِفُ الْوَجَلَ وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ خَوْفِهِ هُوَ عَدَمُ أَكْلِهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [11/ 70].

.تفسير الآية رقم (53):

{قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الضَّيْفَ الْكِرَامَ الَّذِينَ هُمْ مَلَائِكَةٌ بَشَّرُوا إِبْرَاهِيمَ بِغُلَامٍ مَوْصُوفٍ بِالْعِلْمِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْضًا فِي الذَّارِيَاتِ: {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [51/ 28] وَهَذَا الْغُلَامُ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ إِسْحَاقُ كَمَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الذَّارِيَاتِ: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [51 28- 30] لِأَنَّ كَوْنَهَا أَقْبَلَتْ فِي صَرَّةٍ أَيْ صَيْحَةٍ وَضَجَّةٍ، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا أَيْ لَطَمَتْهُ قَائِلَةً إِنَّهَا عَجُوزٌ عَقِيمٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ الْمَذْكُورَ هِيَ أُمُّهُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِبِشَارَتِهَا هِيَ بِأَنَّهَا تَلِدُهُ مُصَرِّحًا بِاسْمِهِ وَاسْمِ وَلَدِهِ يَعْقُوبَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هُودٍ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [11/ 71- 72] وَأَمَّا الْغُلَامُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِلْمِ الْمَذْكُورِ فِي الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} الْآيَةَ [37/ 99- 102] فَهُوَ إِسْمَاعِيلُ وَسَتَرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ دَلَالَةَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ عَلَى وَجْهٍ قَاطِعٍ لِلنِّزَاعِ، وَالْغُلَامُ يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَعَلَى الرَّجُلِ الْبَالِغِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْبَالِغِ قَوْلُ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمَ النَّهْرَوَانِ:
أَنَا الْغُلَامُ الْقُرَشِيُّ الْمُؤْتَمَنُ ** أَبُو حُسَيْنٍ فَاعْلَمَنْ وَالْحَسَنِ

وَقَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيِّ لِحَسَّانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-:
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ** غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ

وَقَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ تَمْدَحُ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ:
إِذَا نَزَلَ الْحَجَّاجُ أَرْضًا مَرِيضَةً ** تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا

شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ** غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا

وَرُبَّمَا قَالُوا لِلْأُنْثَى غُلَامَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ غَلْفَاءَ الْهُجَيْمِيِّ يَصِفُ فَرَسًا:
وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا ** يُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: إِنَّهُ وَقْتَ الْبُشْرَى بِإِسْحَاقَ مَسَّهُ الْكِبَرُ. وَصَرَّحَ فِي هُودٍ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ أَيْضًا قَالَتْ إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ فِي قَوْلِهِ عَنْهَا: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [11/ 72] كَمَا صَرَّحَ عَنْهَا هِيَ أَنَّهَا وَقْتَ الْبُشْرَى عَجُوزٌ كَبِيرَةُ السِّنِّ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: {يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} الْآيَةَ [11/ 72]، وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [51/ 29]. وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ وَقْتَ هِبَةِ اللَّهِ لَهُ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُ كَبِيرُ السِّنِّ أَيْضًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [14/ 39].

.تفسير الآية رقم (54):

{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}.
الظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِفْهَامَ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِلْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [15/ 54] اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ مَا وَقَعَ لَهُ وَقَعَ نَظِيرُهُ لِامْرَأَتِهِ حَيْثُ قَالَتْ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامَ لِعَجَبِهَا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ [11/ 73] وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا وُقُوعُ مِثْلِهِ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ زَكَرِيَّا- عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [3/ 38].

وَقَوْلُهُ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ: {يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [3/ 39] عَجِبَ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} الْآيَةَ [3/ 40] وَقَوْلُهُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ مُخَفَّفَةً وَهِيَ نُونُ الرَّفْعِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ بِكَسْرِ النُّونِ مُخَفَّفَةً وَهِيَ نُونُ الْوِقَايَةِ مَعَ حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِدَلَالَةِ الْكَسْرَةِ عَلَيْهَا، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ مَعَ الْمَدِّ، فَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ لَمْ يَحْذِفْ نُونَ الرَّفْعِ وَلَا الْمَفْعُولَ بِهِ، بَلْ نُونُ الرَّفْعِ مُدْغَمَةٌ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَيَاءُ الْمُتَكَلِّمِ هِيَ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَنُونُ الرَّفْعِ ثَابِتَةٌ وَالْمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ.
وَحَذْفُ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضُرَّ ** كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرَ

وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ فَنُونُ الرَّفْعِ مَحْذُوفَةٌ لِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِهَا مَعَ نُونِ الْوِقَايَةِ.
تَنْبِيهٌ:
حَذْفُ نُونِ الرَّفْعِ لَهُ خَمْسُ حَالَاتٍ ثَلَاثٌ مِنْهَا يَجِبُ فِيهَا حَذْفُهَا، وَوَاحِدَةٌ يَجُوزُ فِيهَا حَذْفُهَا وَإِثْبَاتُهَا، وَوَاحِدَةٌ يُقْصَرُ فِيهَا حَذْفُهَا عَلَى السَّمَاعِ، أَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْحَذْفُ: فَالْأُولَى مِنْهَا إِذَا دَخَلَ عَلَى الْفِعْلِ عَامِلُ جَزْمٍ، وَالثَّانِيَةُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ عَامِلُ نَصْبٍ، وَالثَّالِثَةُ إِذَا أُكِّدَ الْفِعْلُ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ نَحْوَ لَتُبْلَوُنَّ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْإِثْبَاتُ وَالْحَذْفُ فَهِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ نُونِ الرَّفْعِ نُونُ الْوِقَايَةِ، لِكَوْنِ الْمَفْعُولِ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ فَيَجُوزُ الْحَذْفُ وَالْإِثْبَاتُ، وَمِنَ الْحَذْفِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ بِالْكَسْرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [6/ 80]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [16/ 27] بِكَسْرِ النُّونِ مَعَ التَّخْفِيفِ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} الْآيَةَ [39/ 64] بِالْكَسْرِ مَعَ التَّخْفِيفِ أَيْضًا، وَكُلُّهَا قَرَأَهَا بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالتَّشْدِيدِ لِإِثْبَاتِ نُونِ الرَّفْعِ وَإِدْغَامِهَا فِي نُونِ الْوِقَايَةِ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ الْمَقْصُورَةُ عَلَى السَّمَاعِ فَهُوَ حَذْفُهَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتُ تُدَلِّكِي ** وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِيِّ

أَمَّا بَقَاءُ نُونِ الرَّفْعِ مَعَ الْجَازِمِ فِي قَوْلِهِ:
لَوْلَا فَوَارِسُ مِنْ نُعْمٍ وَأُسْرَتِهِمْ ** يَوْمَ الصُّلَيْفَاءِ لَمْ يُوفُونَ بِالْجَارِ

فَهُوَ نَادِرٌ حَمْلًا لِلَمْ عَلَى أُخْتِهَا لَا النَّافِيَةِ أَوْ مَا النَّافِيَةِ، وَقِيلَ هُوَ لُغَةُ قَوْمٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّسْهِيلِ، وَكَذَلِكَ بَقَاءُ النُّونِ مَعَ حَرْفِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ:
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ** مِنِّي السَّلَامَ وَأَلَّا تُشْعِرَا

أَحَدًا فَهُوَ لُغَةُ قَوْمٍ حَمَلُوا أَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ عَلَى أُخْتِهَا مَا الْمَصْدَرِيَّةِ فِي عَدَمِ النَّصْبِ بِهَا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلًا عَلَى ** مَا أُخْتِهَا حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلًا

وَلَا يُنَافِي كَوْنُ اسْتِفْهَامِ إِبْرَاهِيمَ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [15/ 56]. لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِفْهَامَهُ لَيْسَ اسْتِفْهَامَ مُنْكِرٍ وَلَا قَانِطٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنَّهُ لَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ- جَلَّ وَعَلَا- إِلَّا الضَّالُّونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَبَيِّنٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَالَهُ أَيْضًا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ فِي قَوْلِهِ: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [12/ 87] قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} الْآيَةَ. وَرَوْحُ اللَّهِ رَحْمَتُهُ وَفَرَجُهُ وَتَنْفِيسُهُ.

.تفسير الآيات (58-59):

{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ}.
أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ قَوْمُ لُوطٍ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُ، وَوَجْهُ إِشَارَتِهِ تَعَالَى لِذَلِكَ اسْتِثْنَاءُ لُوطٍ وَأَهْلِهِ غَيْرَ امْرَأَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَا امْرَأَتَهُ} الْآيَةَ [15/ 59- 60] وَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ قَوْمُ لُوطٍ بِقَوْلِهِ فِي هُودٍ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} الْآيَةَ [11/ 70] وَصَرَّحَ فِي الذَّارِيَاتِ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لِيُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [51/ 32- 33] وَصَرَّحَ فِي الْعَنْكَبُوتِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُمْ مُهْلِكُوهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَمُنْزِلُونَ عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} الْآيَةَ [29/ 31- 32]، وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [29/ 33- 34] وَقَوْلِهِ: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [15/ 59] بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِقَوْمِهِ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} الْآيَةَ [11/ 81] وَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ} الْآيَةَ [29/ 33] وَقَوْلِهِ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [7/ 83] وَقَوْلِهِ: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} الْآيَةَ [26/ 170- 171] وَقَوْلِهِ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [27/ 57] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ اسْتِثْنَاءِ امْرَأَتِهِ مِنْ أَهْلِهِ النَّاجِينَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} أَوْضَحَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِي الذَّارِيَاتِ أَنَّهُ أَنْجَى مَنْ كَانَ فِي قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ وَهُمْ آلُ لُوطٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [29/ 35- 36].
تَنْبِيهٌ:
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنْ إِهْلَاكِ الْمُجْرِمِينَ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [15/ 59] ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ امْرَأَةَ لُوطٍ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [15/ 60] وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَحُكْمُهَا فِي الْقَصْدِ حُكْمُ الْأَوَّلِ لَيْسَ صَحِيحًا عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَأَوْضَحَ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَقْسَامِهَا صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ الْمُخَصَّصِ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ:
وَذَا تَعَدُّدٍ بِعَطْفٍ حَصَلَ ** بِالِاتِّفَاقِ مُسْجَلًا لِلْأَوَّلْ

إِلَّا فَكُلٌّ لِلَّذِي بِهِ اتَّصَلْ ** وَكُلُّهَا مَعَ التَّسَاوِي قَدْ بَطَلْ

إِنْ كَانَ غَيْرُ الْأَوَّلِ الْمُسْتَغْرَقَا ** فَالْكُلُّ لِلْمُخْرَجِ مِنْهُ حُقِّقَا

وَحَيْثُمَا اسْتَغْرَقَ الَاوَّلَ فَقَطْ ** فَأَلْغِ وَاعْتَبِرْ بِخُلْفٍ فِي النَّمَطْ

.تفسير الآيات (61-62):

{فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ لُوطًا- عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمَّا جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُرْسَلُونَ لِإِهْلَاكِ قَوْمِهِ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ مَسَاءَةٌ بِمَجِيئِهِمْ، وَأَنَّهُ ضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [11/ 77] وَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} [29/ 33]، وَذَكَرَ تَعَالَى فِي الذَّارِيَاتِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَهُمْ أَيْضًا: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، كَمَا ذَكَرَ عَنْ لُوطٍ هُنَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [51/ 25] وَقَوْلِهِ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ، وَالنَّكِرَةُ ضِدُّ الْمَعْرِفَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ رَآهُمْ فِي صِفَةِ شَبَابٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ، فَخَافَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ قَوْمُهُ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ فَقَالَ: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [15/ 62] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: مُنْكَرُونَ أَيْ تُنْكِرُكُمْ نَفْسِي وَتَفِرُّ مِنْكُمْ، فَأَخَافُ أَنْ تَطْرُقُونِي بِشَرٍّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} الْآيَةَ [15/ 63- 64] وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي هُودٍ أَنَّ سَبَبَ إِنْكَارِ إِبْرَاهِيمَ لَهُمْ عَدَمُ أَكْلِهِمْ مِنْ لَحْمِ الْعِجْلِ الَّذِي قَدَّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [11/ 70] لِأَنَّ مَنِ اسْتَضَافَ وَامْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ خِيفَ مِنْهُ الشَّرُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} [15/ 59] قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِإِسْكَانِ النُّونِ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَضْمُومَةِ مُخَفَّفًا اسْمُ فَاعِلِ أَنْجَى عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَقَرَأَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْقُرَّاءِ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ اسْمُ فَاعِلِ نُجِّيَ عَلَى وَزْنِ فُعِّلَ بِالتَّضْعِيفِ، وَالْإِنْجَاءِ وَالتَّنْجِيَةِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَقَوْلُهُ: {قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [15/ 60] قَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَقَرَأَهُ غَيْرُهُ بِتَشْدِيدِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ: {جَاءَ آلَ لُوطٍ} [15/ 61] قَرَأَهُ قَالُونُ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِسْقَاطِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَتَحْقِيقِ الثَّانِيَةِ مَعَ الْقَصْرِ وَالْمَدِّ، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَإِبْدَالِ الثَّانِيَةِ أَلِفًا مَعَ الْقَصْرِ وَالْمَدِّ، وَعَنْ وَرْشٍ أَيْضًا تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْقَصْرِ وَالتَّوَسُّطِ وَالْمَدِّ، وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ مِثْلَ قِرَاءَةِ وَرْشٍ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعَ التَّسْهِيلِ إِلَّا الْقَصْرُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ وَكُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْمَدِّ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ وَرْشٍ وَقُنْبُلٍ هُوَ التَّحْقِيقُ عَنْهُمَا وَإِنْ قِيلَ غَيْرُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ}.
سَبَبُ اسْتِبْشَارِ قَوْمِ لُوطٍ أَنَّهُمْ ظَنُّوا الْمَلَائِكَةَ شَبَابًا مِنْ بَنِي آدَمَ، فَحَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنْ يَفْعَلُوا بِهِمْ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ، كَمَا يُشِيرُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ} [15/ 68] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} الْآيَةَ [54/ 37] وَقَوْلِهِ: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [11/ 78] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (75):

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فِيمَا أَوْقَعَ مِنَ النَّكَالِ بِقَوْمِ لُوطٍ آيَاتٍ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي ذَلِكَ، تَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا الْمَوْعِظَةُ وَالِاعْتِبَارُ وَالْخَوْفُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْزَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ لَمَّا عَصَوْهُ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [29/ 35] وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [151/ 37] وَقَوْلِهِ هُنَا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [15/ 75] وَقَوْلِهِ فِي الشُّعَرَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ [26/ 174]، كَمَا صَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي إِهْلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ فِي الشُّعَرَاءِ وَقَوْلُهُ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَصْلُ التَّوَسُّمِ تَفَعُّلٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبِ غَيْرِهَا. يُقَالُ: تَوَسَّمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ إِذَا رَأَيْتُ مِيْسَمَهُ فِيهِ، أَيْ عَلَامَتَهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَعْرِفُهُ ** وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ النَّظَرِ

وَقَالَ الْآخَرُ:
تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً ** عَلَيْهِ وَقُلْتُ الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ

هَذَا أَصْلُ التَّوَسُّمِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.
فَعَنْ قَتَادَةَ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيِ الْمُعْتَبِرِينَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيِ الْمُتَفَرِّسِينَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلنَّاظِرِينَ، وَعَنْ مَالِكٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلْمُتَأَمِّلِينَ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ وَالنَّظَرَ وَالتَّفَرُّسَ وَالتَّأَمُّلَ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٍ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلْمُتَفَكِّرِينَ، وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلْمُتَبَصِّرِينَ، فَمَآلُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ مَا وَقَعَ لِقَوْمِ لُوطٍ فِيهِ مَوْعِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَتَأَمَّلَ فِيهِ حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَإِطْلَاقُ التَّوَسُّمِ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَفِيهِنَّ مَلْهَى لِلصَّدِيقِ وَمَنْظَرٌ ** أَنِيقٌ لَعِينِ النَّاظِرِ الْمُتَوَسِّمِ

أَيِ الْمُتَأَمِّلِ فِي ذَلِكَ الْحُسْنِ، وَقَوْلُ طَرِيفِ بْنِ تَمِيمٍ الْعَنْبَرِيِّ:
أَوْ كُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ** بَعَثُوا إِلَيَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ

أَيْ يَنْظُرُ وَيَتَأَمَّلُ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [15/ 75] قَالَ: لِلنَّاظِرِينَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ: قَالَ لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: هُمُ الْمُتَفَرِّسُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: هُمُ الْمُتَفَرِّسُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ مَعًا فِي الطِّبِّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» ثُمَّ قَرَأَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: «لِلْمُتَفَرِّسِينَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْذَرُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ وَيَنْطِقُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ». وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ». اهـ.